ورقة تقدير موقف
تغيّر الموقف المصري من الأزمة الليبية (جدليّة المصلحة والقوة)
أ.علاء الدين حسن بن دردف
باحث في العلوم السياسية
في منتصف عام 2014م، وبعد انطلاق ما سمي بعملية الكرامة في شرق ليبيا والتي اتخذت شعار محاربة الارهاب والقضاء على الفوضى وبناء جيش وطني في أعقاب حالة الفوضى وانهيار المؤسسات في البلاد، وما تبع ذلك من عمليات اغتيالات طالت شخصيات عديدة في البلاد، وتبادل فيها الأطراف المتصدرين للمشهد الاتهامات ورواية السرديات حولها. دخلت فيها الحكومة المصرية على الخط، وذلك في دعم واضح لقوات عملية الكرامة في شرق البلاد، واتخذ هذا الدعم وسائل سياسية وإعلامية، كما اتخذ وسائل الدعم العسكري.
وتزامن كل ذلك مع حالة انقسام سادت البلاد تمثّلت في حكومة الانقاذ الوطني، والمؤتمر الوطني العام في العاصمة طرابلس، بينما تشكّلت الحكومة الليبية المؤقتة في مدينة البيضاء، واتخذ أعضاء مجلس النواب الداعمون لعملية الكرامة مدينة طبرق مقراً لانعقاد جلساتهم.
في حين نفذت طائرات حربية مصرية ضربات جوية استهدفت مواقع تابعة لقوات “فجر ليبيا” في العاصمة طرابلس، والمنطقة الغربية في أغسطس 2014م.
كما قامت القوات المصرية بغارات جوية متكررة على مدينة (درنة) التي ظلت خارج سيطرة قوات الكرامة حتى منتصف عام 2018م.
وظلّ الموقف المصري عموماً أثناء هجوم قوات الكرامة على مدينة طرابلس يوم 04 أبريل 2019م داعماً سياسياً وعسكرياً.
وقد أدّى الانقسام السياسي الحاصل في ليبيا إلى إضرار بالغ بالمصالح المصرية؛ حيث انخفضت الصادرات المصرية إلى السوق الليبي إلى نحو الربع، كما أن %70 من سكان ليبيا تقريباً يتركزون في المنطقتين الغربية والوسطى الخاضعتين في معظمهما لسلطة حكومة الوفاق.
بينما تُعدُّ ليبيا عمقاً جيواستراتيجياً بالنسبة لمصر؛ حيث تربطهما حدود مشتركة تصل إلى 1200 كم، بالإضافة إلى المصالح الاقتصادية، والتداخل السكاني ذو الطبيعة القبلية المنتشر على طول الحدود الليبية المصرية، والذي له امتدادات قبلية وسكانية تصل إلى حدود الإسكندرية.
دخول المنافس التركي في المشهد:
شهد الموقف المصري تغيّراً كبيراً على إثر توقيع حكومة الوفاق الوطني اتفاقية عسكرية وأخرى لترسيم الحدود البحرية مع تركيا في 27 نوفمبر 2019م.
وهي الاتفاقية التي تم بمقتضاها دخول تركيا في دعم عسكري لحكومة الوفاق، مما جعل كفة الميزان العسكري ترجح لصالحها، وتمكنت “قوات الوفاق” من استرجاع كامل المنطقة الغربية من قوات الكرامة المنطلقة من شرق البلاد، وبسبب هذا التفوق الميداني لقوات حكومة الوفاق تراجعت احتمالات الحسم العسكري وتم قبول الطرفين لوقف إطلاق النار.
وكان توقيع الاتفاقية البحرية بين تركيا وحكومة الوفاق قد صعّد من وتيرة الخلافات القائمة حول المجال الجيوسياسي بين تركيا من جهة واليونان ومصر وإسرائيل من جهةٍ أخرى، كما أن التدخل العسكري الروسي إلى جانب قوات الكرامة قد جاء على حساب الدور المصري، والذي اتضح فيما بعد من تبلور تفاهمات ثنائية تركيّة – روسيّة حول الملف الليبي لم تكن القاهرة جزءاً منها.
وفي وضعٍ كهذا تخشى القاهرة من أن يؤدي مسار التسوية في ليبيا بدون وجودها في المشهد إلى فقدان تأثيرها وتراجع دورها الإقليمي ووزنها الجيوسياسي في المنطقة، وذلك في حال رهانها على طرفٍ واحد بدأ يأخذ دوره في التراجع.
كما أنه ظهر للعالم أن الأزمة الليبية أزمة دولية، وذلك ليس بسبب التدخلات الخارجية بالوكالة فقط، وإنما بسبب غياب الظهور العلني لأدوار الفاعلين “تحت الدولة” كالمنظمات الإرهابية، والتشكيلات المسلحة غير الرسمية، وأطراف إعلامية وسياسية غير واضحة التوجهات والأهداف.
اتفاق جنيف (فبراير 2021م) وتبادل المواقف:
في يوم 05 فبراير 2021م تم لقاء الأطراف المؤثرة في المشهد السياسي الليبي في جنيف برعاية الأمم المتحدة، وشارك في هذا الاتفاق 75 مشاركاً، منهم شخصيات قبلية وقانونية، وممثلين عن اتجاهات سياسية، وانتهى الاتفاق إلى اختيار ثلاثة أشخاص ممثلين للأقاليم التاريخية في ليبيا (برقة، طرابلس، فزان) مع رئيس للحكومة، وذلك في محاولة لإتاحة أكبر قدر من التمثيل للواقع الليبي المعقد.
وتم انتخاب مجلس رئاسي من رئيس ونائبين، ورئيس حكومة. فيما حظى هذا الاتفاق بتأييد ودعم دولي واسع النطاق، وبدا أن الأمم المتحدة جادة في رعاية الحكومة الجديدة، وتثبيت وقف إطلاق النار، وإخراج الميليشيات والمرتزقة. كما أن الضغوط الأمريكية والأوروبية أسهمت في تحجيم الوجود الروسي والتركي في ليبيا.
وظهر أن مصر بدأت تتخلّى عن الموقف المؤيد للتصعيد العسكري بعد إدراكها صعوبة هذا الاختيار والنظر إلى تغيّر ميزان القوى لصالح الحكومة الجديدة المشكلة في جنيف.
الموقف المصري وإعادة الإرتكاز:
في 27 ديسمبر 2020م قَدِم إلى العاصمة طرابلس وفد ذو طبيعة دبلوماسية مخابراتية مكوّن من وكيل المخابرات العامة (أيمن بديع) والمسؤول عن الملف الليبي بوزارة الخارجية السفير (محمد أبوبكر) وشخصيات دبلوماسية وأمنية، وذلك بعد ست سنوات من القطيعة، زاروا الحكومة الجديدة وتركزت محادثات الوفد المصري حول قضايا محددة هي:
– تفعيل الاتفاقيات الاقتصادية الليبية – المصرية الموقعة منذ التسعينيات.
– استئناف الرحلات الجوية.
– إعادة فتح السفارة المصرية في طرابلس وقنصلية في بنغازي.
– وكذلك تم الحديث عن الدور المصري في إعادة الإعمار.
وطالب الوفد المصري بتفعيل الاتفاقيات السابقة المتعلقة بالحريات الأربع بين مواطني البلدين وهي: حق الإقامة، وحق العمل، وحق التنقل، وحق التملك.
وبهذا أرسل الجانب المصري رسالة واضحة أنه بات يقف من جميع الأطراف على مسافة واحدة، مع محاولة تعديل موقفه إيجاباً من الحكومة الجديدة، ومحاولة الخروج من تأثير بعض الدول الخليجية والتي تصرّ على الدفع نحو الصراع المسلح إلى أقصى مدى.
وجاءت زيارة الوفد المصري للدلالة على أن القاهرة ليست في وارد الدخول في صدام مباشر مع قوات الوفاق ومن ورائها تركيا، أو الانزلاق نحو تورط شامل في الصراع الليبي، ولا شك أن الموقف المصري تغيّر موقفه بناءً على معطيات جديدة منها:
– توقع تغيرات إقليمية جديدة في المنطقة بعد الانتخابات الأمريكية وفوز الرئيس (جو بايدن)، وربما ما سيتبعها من تغيّرات جيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط. كذلك سياسة الرئيس الأمريكي الجديد (بايدن) والتي ستركز على التقليل من التمدد الروسي في المنطقة.
– كما أن احتياج مصر للنفط والطاقة في ظل مديونية كبيرة كان له دور في هذا التغيّر.
– مسألة إعادة الإعمار في ليبيا والتي يتوقع أن تصل إلى 700 مليار دولار.
– كما أن الموقف التركي المرن تجاه مصر والراغب في تفكيك حلفها مع اليونان وقبرص مثّل عامل إغراء للموقف المصري؛ حيث أن الوفد المصري التقى المسؤولين الليبيين أنفسهم الذين التقاهم وزير الدفاع التركي (خلوصي أكار) عقب يوم واحد من هذه الزيارة، مما يوحي بنوع من الوساطة، كما ظهرت إشارات إعلامية من تركيا في 30 ديسمبر 2020م بأن هناك حواراً أمنياً بين تركيا ومصر ذو طبيعة مخابراتية.
هكذا انعطف الموقف المصري من داعم إلى طرف ليبي تجاه طرف ليبي آخر، إلى وسيط بين الأطراف، إلى معترف بحكومة جديدة يرسم معها علاقات أكثر ندية ومصلحية للطرفين. وهذه هي السياسة مواقف متبادلة ومتغيّرة ومفاجئة حسب تبدّل المصالح وتغيّر موازين القوى.