هنريش بارت (جولات في البلدان المطلة على البحر المتوسط)

11 سبتمبر 2025م | طرابلس ليبيا
صدر يوم الأربعاء 03 سبتمبر الجاري كتاب جديد عن المركز الليبي للأبحاث والدراسات بعنوان (جولات في البلدان المطلة على البحر المتوسط خلال السنوات 1845- 1847م) للرحالة الألماني هينريش بارت، ترجمة الأستاذ الدكتور عماد الدين غانم -رحمه الله-، جمع وترتيب ومراجعة الأستاذ الدكتور نصر الدين البشير العربي، في سلسلة الكتب المترجمة، ويقع الكتاب في 608 صفحة من القطع المتوسط، يطبع لأول مرة.
يعد هذا الكتاب دراسة علمية لسواحل المغرب والجزائر وتونس وليبيا، بدءاً من مدينة طنجة إلى الإسكندرية، وخص الساحل الليبي باهتمام كبير باعتبار أن الأوروبيين كانوا يصنفون بعض مناطقه وقتئذ بأنها مجهولة؛ وخاصة سرت، ولذلك لا نستغرب أنه وضع هامشاً يقع في 17 صفحة يعرّف بها جغرافياً وتاريخياً، وهي في حد ذاتها دراسة مسحية معمقة جداً للمعلومات المتعلقة بسرت في تللك الفترة.
وصل الرحالة الألماني هينريش بارت مدينة طنجة في 07 أغسطس 1845م، ويعد التاريخ الفعلي لبداية الرحلة الساحلية، فقام بجولات إلى شاطئ الأطلسي؛ حيث زار العرايش، والرباط، ثم زار تطوان، وعاد إلى جنوب إسبانيا ليركب منها السفينة وينزل في الجزائر في 28 سبتمبر 1845م، وكانت المواقع الأثرية في مقدمة اهتماماته مثل شرشال، وآثار يوليا، وتيبازة، وضريح الملوك، وقبر الرومية، وزار قسنطينة، وعنابة، ومن هناك سافر على متن مركب حكومي فرنسي يحمل البريد إلى تونس، واستغرقت زيارته لها أكثر من خمسة أشهر قام خلالها بجولاتٍ عديدة شملت معظم سواحلها وقسماً غير قليل من مناطقها الداخلية.
بدأت أولى جولاته في تونس في المنطقة البونية التي لا يقل جمال طبيعتها عن ثرواتها التاريخية، ووجه اهتمامه أثناءها إلى التراث الحضاري البوني ومراكزه في قرطاج وعتيق والمرتفعات الجميلة المحيطة بزغوان، بعد ذلك قصد الساحل التونسي ما بين تونس وصفاقس.
في الأول من أبريل 1846م دخل هينريش بارت أراضي ولاية طرابلس الغرب من الجهة الغربية، وقدّم وصفاً لزوارة وصبراتة والزاوية وطرابلس التي مكث فيها ستة أيام قضاها في زيارة معالم المدينة، والتعرف على رموز الحكم فيها، وشراء لوازم المرحلة القادمة من الرحلة.
وإذا قارنا حجم فصول كتابه فإننا نلمس تطبيقه مبدأ الاهتمام المكثف بالمدن أو المواقع الأثرية التي لم يسبق أن وُصفت أو أن أخطاء تكتنف المعلومات المتوفرة في الأعمال الأوروبية حولها، ولذلك ظهر مصطلح أمكنة مجهولة أو معروفة، مثلاً كرّس للمغرب 52 صفحة، وللجزائر 20 صفحة، ولتونس 175 صفحة، ولمالطا مع شمال تونس 19 صفحة، بينما يخصص لليبيا 304 صفحة، أي أكثر من نصف حجم الأصل الألماني للكتاب الذي يقع في 576 صفحة، وبذلك يمكن أن نقول أن تونس وليبيا شكلتا نقطة الثقل في كتابه عن الرحلة الساحلية.
وعودة إلى خط سير بارت في الأراضي الليبية فالملاحظ أنه التزم الشريط الساحلي دون الابتعاد عنه إلا في حالة الجبل الأخضر، على عكس ما اتبعه في حالة تونس والجزائر؛ فقد سار طريقه عبر تاجوراء، ووادي المسيد، وقصر القره بوللي، وسيدي عبد العاطي، ولبدة الكبرى، ويذكر أنه توجه يوم 17 أبريل 1846م إلى ساحل الأحامد، ومنه إلى وادي كعام ثم إلى زليتن ومنها مصراتة. وفي سرت زار القصر ووادي الزعفران ومدينة سلطان ومنطقة بوسعدة الخصيبة وقضى في المنطقة ستة أيام، وتوجه منها إلى مرسى بن جواد ثم قصر العطش ومذابح الفيلانيين، ومرسى البريقة وأجدابية وقمينس ووصل بنغازي في 4 مايو 1846م ولم يمكث فيها سوى ثلاثة أيام رغم حاجته إلى الراحة بعد شهر من السفر المضني من طرابلس إلى بنغازي. وجاء قراره مواصلة السفر نتيجة توقه الشديد للوصول إلى قوريني وآثارها، وهكذا آثر التحرك باتجاهها، وزار أثناء الطريق توكرة وطلميثة وبرقة (المرج) وبلاكراي (البيضاء)، ومكث في قوريني ووصفها وصفاً مسهباً، ورأى زيارة سوسة ورأس الهلال، وبعد العودة إلى قوريني عاد لمتابعة سيره شرقاً إلى الشريط الساحلي، فوصل درنة، ومكث فيها فترة لأنه كان ينوي أن يتجه منها جنوباً إلى أوجلة ومنها إلى وادي النيل عبر واحة سيوة، وشعر بصعوبة تنفيذ المخطط، كما أن حاكم درنة ثناه عنه، وانطلق يوم 28 مايو 1846م من درنة نحو السلوم، وحافظ على خط سيره على الطريق الساحلي والهدف القادم هو السلوم أو العقبة في المنطقة الحدودية الواقعة بين ولاية طرابلس الغرب ومصر.
في يوم 7 يونيو 1846م تعرض لاعتداء من بدو على علاقة أو تواطؤ مع بعض مرافقيه الجدد الذين انضموا إليه في درنة، ووقع ذلك في منطقة العقبة الكبرى (السلوم)، وأفضى الاعتداء بعد عدة جولات من القتال إلى إصابته إصابة بالغة وإلى سلب جميع أغراضه، ومنها أوراقه وكل يومياته ورسومه ونسخ النقوش ما عدا أوراق قليلة، ولم تَسّلم سوى مذكرات مختصرة كان يكتبها عن برقة إلى جانب مذكرات مبعثرة عن رحلته في المغرب، وإلى جانب ذلك أنقذ سجل مذكراته عن رحلة خليج سرت بدءً من طرابلس، ويضاف إلى ذلك أنهم كسروا آلة التصوير الخاصة به.
ولولا الرسائل التفصيلية التي كان يرسلها إلى والده عن طريق القنصلية الإنجليزية والتي كانت تقترب من نص اليوميات التي جمعتها القنصلية ووضعتها تحت تصرفه، ولولا ذاكرته الحادة وعزمه الذي لا يلين، لما تسنّى له تأليف الجزء الأول من وصف الرحلة، في 17 يونيو 1846م وصل الإسكندرية وتلقى العلاج المطلوب، بيد أن رصاصة ظلت في جسمه ولم تنتزع منه إلا بعد الوفاة عند تشريح جثته، وخففت الرعاية التي حظي بها من المعاناة المريرة التي تعرض لها.
يعد هذا الكتاب مصدراً لا غنى عنه لكل من يرغب في معرف المزيد من المعلومات عن ساحل شمال أفريقيا من طنجة إلى الإسكندرية في منتصف القرن التاسع عشر، بقلم رحالة ألماني يُعد من أهم وأشهر الرحالين الأوروبيين، المعروفين بدقتهم ورصانتهم العلمية، وسيكون الكتاب متوفر في جناح دار الزاوي للطباعة والنشر في معرض النيابة العامة الدولي للكتاب في منتصف شهر أكتوبر القادم بطرابلس.